سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قلت: {إذ}: معمول لاذكروا، و{فرعون}: اسم لكل من ملك القبط، كما أن قيصر اسم لمن ملك الروم، وكسرى اسم لمن ملك الفرس، واسم {فرعون} الذي كان في زمن موسى عليه السلام: مصعب بن ريان، وقيل: ابنه الوليد. وسَام يسُوم: طلب وبغى، يقال: سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وجملة {يسومونكم}: حال من {آل فرعون}، وجملة {يذبحون}: بيان لها. وسوء العذاب: أفظعه وأقبحه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: يا بني إسرائيل اذكروا نعمة أخرى أنعمت بها على أسلافكم، وأنتم عالمون بها، وذلك حين أنجيناكم من عذاب فرعون ورهطه، يولونكم أقبحَ العذاب وأشنعَه، كانوا يستعبدون رجالكم ونساءكم في مشاق الخدمة والمهنة، ولمّا أخبره الكهان أنه سيخرج منكم ولد يُخَرِّب ملكه، جعل يذبح ذكوركم ويترك نساءكم، وفي ذلكم محنة {مِن رَّبِّكُمْ} وابتلاء {عَظِيمٌ}، أو في ذلك الإنجاء اختبار من ربكم عظيم، فاذكروا هذه النعمة، وتحصنوا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من محنة أخرى، ولا ينفع حذرٌ من قدر، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرَاً مَّقْدُوراً} [الأحزَاب: 38]. وبالله التوفيق.
الإشارة: لكل زمان فراعين وجبابرة يقطعون الناس عن الانقطاع إلى الله والدخول إلى حضرة الله، {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104]،
يقول الحقّ جلّ جلاله للذين تخلصوا منهم: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم بها؛ حيث أنجيتكم من فراعين زمنكم، {يسومونكم سوء العذاب}؛ وهو البقاء في غم الحجاب، والانقطاع عن الأحباب، يقتلون ما ربيتم من اليقين في قلوبكم والمعرفة في أسراركم، ويستحيون شهواتكم وحظوظكم، {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}. قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ...} [الأنعَام: 116]. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.


ثم ذكَّرهم الحق تعالى نعمة أخرى؛ وهي فلق البحر وإغراق العدو، فقال:
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا أيضاً حين {فرقنا} بسببكم {البحر}، حين فررتم من عدوكم، فسلكتم فيه اثنيْ عشر مسلكاً يابساً، حتى خلصتم إلى الشام، فلما أدرككم عدوُّكم، واسْتَتَمَّ دخولهُ فيه، أطبقنا عليهم البحر {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون} وأنتم تعاينون غرقهم وهلاكهم، فاشكروا هذه النعم التي أنعمت بها على أسلافكم، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم على نبي أُمي، لم يكن له علم بهذا، حتى علمه بالوحي من ربكم.
الإشارة: قال بعض الحكماء: (الهوى بحر لا ساحل له إلا الموت): فلا يقطع بحر الحظوظ والعوائد، إلا الخواص، الذين منَّ الله عليهم بسلوك الطريقة، والغرق في بحر الحقيقة، على يد رجلا جمعوا بين الشريعة والحقيقة، فيقول الحق- جلّ جلاله- لمن تخلَّص من بحر هواه، وأفضى إلى مشاهدة مولاه: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم؛ حيث خلصتكم من بحر الشهوات والعوائد، وأطلعتكم على أسرار العلوم وذخائر الفوائد، وأغرقنا فيه من تكبّر وطغى، وأنتم تنظرون ما فيه الناس من غم الحجاب وسوء الحساب، في بحر لجى يغشاه موج الذنوب، من فوقه موج الحظوظ، من فوقه سحاب الأثر، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً لما له من نور. وبالله التوفيق.


قلت: {أربعين}: مفعول لواعدنا، لا ظرف، و{العجل}: مفعول أول، والثاني محذوف، أي: اتخذتموه إليهاً، و{الفرقان}: معطوف على {الكتاب}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا أيضاً حين {وَاعَدْنَا مُوسَى} أن يصوم {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} بأيامها متواصلة، وذلك حين طلبتم منه أن ينزل عيه الكتاب فيه بيان الأحكام، ثم لما صامها، وهي: ذو القعدة وعشر ذي الحجة، وأتى إلى المناجاة، كفرتم، و{اتَّخَذْتُمُ الْعَجْلَ} الذي صاغه السامِريُّ من الحُليّ، الذي أخذته نساء بني إسرائيل من القبط عارية، ففرّوا به ظنّاً منهم أنه حلال، فقال لهم هارون عليه السلام: لا يحل لكم، فطرحوه في حفرة، فصاغ منه السامري صورة العجل، وألقى في جوفه قبضة أخذها من تحت حافر فرس جبريل عليه السلام حين عبر معهم البحر، فجعل يخور، فقال السامري: {هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88]، {وأنتم ظالمون} في عبادته، {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} بالتوبة وقتل النفس على ما يأتي، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فلا فلا تعصون نعمة، {و} اذكروا أيضاً {إذْ آتينا موسَى الكِتَابَ} الذي طلبتم، وهو التوراة، وهو {الفرقان} الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل، كي تهتدوا إلى الصواب فتنجوا من العذاب.
الإشارة: ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السلام في استعمال هذه الأربعين، ينفردون فيها إلى مولاهم، مؤانسة ومناجاة، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه:
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني *** مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي
وقال:
صارتْ جِبالِيَ دكّاً *** مِنْ هَيْبَةِ المُتَجَلِّي
فيفارقون عشائرهم وأصحابهم في مناجاة الحبيب، والمؤانسة بالقريب، فمن أصحابهم مَن يبقى على عهده في حال غيبة شيخه، من المجاهدة والمشاهدة، ومنهم مَن تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه؛ فيظلم نفسه بمتابعة دنياه، فإن بادر بالتوبة والإقلاع، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع، وقع عنه العفو والغفران ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان، وإلا باء بالعقوبة والخسران، وكل مَن اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب، طالباً جمع قلبه، ورضى ربه، فلا بد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية، من لدن حكيم عليم، يظهر بها الحق، ويدفع بها الباطل، فيفرق بين الحق والباطل. والله تعالى أعلم.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12